ملخص حياة سيدي أحمد التجاني – ختم الولاية المحمدية – رضي الله

أنشر على شبكات التواصل الإجتماعي

لمّا كانت معرفة الشيخ في طريق  الإرادة من الأمر المهم و الأكيد لما ينشأ عنها من المحبة و التآلف ، نورد هذه النبذة البسيطة و المتواضعة ، في التعريف به و بحياته  رضي الله عنه
فهو رضي الله عنه من العلماء العاملين و الأئمة المجتهدين ، القطب المكتوم و الختم  المحمدي المعلوم  ، قدوة الأنام و حُجة  الإسلام ، الوارث الجامع و المربي النافع ،العارف الكامل الواصل العالم بالله ، الناصر لسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ، ذو الآيات الظاهرة و  الكرامات الباهرة سيدنا أبو العباس أحمد بن محمد التجاني رضي الله عنه
 من الإرهاصات التي سبقت قدوم سيدنا أحمد التجاني قدس الله سره  أن الولي الشهير العارف بالله  سيدي المختار الكنتي  رضي الله عنه كان قد أخبر أن القرن الثاني عشر من الهجرة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة و السلام يشاكل قرنه صلى الله عليه و سلم إذ أن فيه خاتم الأولياء كما في قرنه صلى الله عليه و سلم خاتم الأنبياء


ولادته و نسبه  رضي الله عنه
 
ولد رضي الله عنه سنة 1150 هجري الموافق 1737 ميلادي  بقرية عين ماضي على تخوم الصحراء الجزائرية  وهي بلده و مقر أسلافه 
كانت هذه البلدة على قدر كبير من الأهمية العلمية و الدينية باعتبارها مركزا للصلاح و الولاية و معروفة بعلمائها الراسخين في العلم الظاهر و الباطن من أسلاف سيدنا رضي الله عنه  
أما نسبه رضي الله عنه فهو شريف محقق ، أبو العباس سيدي أحمد بن الولي الشهير والعالم الكبير القدوة سيدي محمد بن المختار بن أحمد بن محمد بن سالم بن أبي العيد بن سالم بن أحمد الملقب”بالعلواني” بن أحمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد الجبار بن إدريس بن إدريس بن اسحق بن علي زين العابدين بن أحمد بن محمد النفس الزكية بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبى طالب كرم الله وجهه، من سيدتنا فاطمة الزهراء سيدة نساء أهل الجنة رضي الله عنها بنت سيد الوجود وقبلة الشهود سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم 
كان أبوه رضي الله عنه وهو الشيخ  العالم الورع الدال على الله بحاله و مقاله أبو عبد الله سيدي محمد ابن المختار كانت تأتيه الروحانية يطلبون منه قضاء حوائجه فكان يمتنع منهم و يقول :” أتركوني بيني وبين الله لا حاجة لي بالتعلق بسوى الله تعالى! ” .كان قائما بالحق لا تأخذه في الله لومة لائم ، توفي رضي الله  سنة 1166 للهجرة بالطاعون رحمة الله تعالى عليه. 
و أمه رضي الله عنها هي السيدة الفاضلة الطيبة المطهرة ذات الأخلاق الكريمة و السيرة المستقيمة  السيدة عائشة بنت الولي ذو البركة  و الأنوار أبي عبد الله سيدي محمد ابن السنوسي، كانت معنية بأمر الدين لها حظ عظيم من البر و الإحسان شديدة الاعتناء بحقوق بعلها محافظة على الدين كثيرة الأذكار و الصلاة على النبي ، توفيت رضي الله عنها في يوم واحد مع زوجها بالطاعون و دفنا معا بعين ماضي.
و أما جده لأبيه فهو السيد الجليل ذو المروءة و الصيانة سيدي المختار بن أحمد ، كان رضي الله عنه خيّرا مرضيا فاضلا عالي الهمة شديد الحياء يصل الرحم و الأقارب رضي الله عنه و أرضاه و جعل الجنة مأواه.
و أما جده الثالث فهو السيد الأصيل النزيه  العلامة صاحب الحال القوي و البصيرة الصحيحة و الهيبة و الوقار الزاهد الناصح  أبو العباس سيدي أحمد بن محمد.
و رابع الأجداد لسيدنا رضي الله عنه ، وهو الذي وفد أولا لعين ماضي و توطن بها و تزوج منهم فكانوا أخوالا لسيدنا رضي الله عنه و لهذا ينتسبون للتجانية بالمصاهرة
وهو الولي المكين ذو الجذب الواضح و المحبة الصادقة و الخلق الكريم سيدي محمد بن سالم التجاني و حكي عنه رضي الله عنه  أنه كان إذا خرج للمسجد يتبرقع و لا يرى أحد وجهه ، و قد سئل شيخنا أحمد التجاني  رضي الله عنه عن سبب ستر وجهه عن الناس فأجاب رضي الله عنه بقوله :” لعله بلغ مرتبة في الولاية من بلغها يصير كل من رأى وجهه لا يقدر على مفارقته طرفة عين ، و من فارقه و تحجب عنه مات لحينه ،وهي مرتبة من أدرك  اثنين و سبعين علما من العلوم المحمدية، و مكث فيها ثلاث و عشرين سنة. ” . قيل للشيخ رضي الله عنه : “هذه لمفاتيح الكنوز أم لغيرهم؟ ” فأجاب رضي الله عنه:” بل لغيرهم و أما القطب و مفاتيح الكنوز فلا يستترون لكمالهم.”
و بالجملة فجميع أسلاف سيدنا  رضي الله عنه علماء عبّاد أتقياء موصوفون بالإمامة و الولاية إلا أنهم كانوا لشدة إتباعهم للسنة يسترون ولايتهم بالعلم  فلا يعرفهم إلا الخاصة ، و نسبهم الشريف  إلى   آل بيت الرسول  صلى الله عليه و سلم مذكور في رسمهم عند أوائلهم و محوز لهم بالحوز التام  ، و لكن سيدنا لم يلتفت لذلك لما هو عليه من الجد و الاجتهاد حتى خاطبه  صلى الله عليه و سلم  يقظة لا مناما بقوله: “أنت ولدي حقا ! ” كررها ثلاثا تأكيدا ثم أردف  صلى الله عليه و سلم : ” نسبك إلى الحسن ابن علي صحيح ! “.

 نشأته ووصفه رضي الله عنه
 
نشأ رضي الله عنه بين أبويه الصالحين يؤدبانه و يربيانه و يلقنانه ، فربي في عفاف و صيانة  محروسا محفوظا بالعناية و الرعاية ،لا يتقيد بما عليه الناس من العوائد و الزوائد ، متحليا بالأخلاق الحميدة ، أبيّ النفس عالي الهمة ، فكان لا يريد أمرا إلا ابتدأه ، و لا يبتدئه إلا أتمه  و إذا تعلقت همته بشيء من الأشياء كائنا ما كان لا يهنأ له عيش و لا يقر له قرار حتى يصله و يتجاوزه.
و قد ذكر في “جواهر المعاني” أنه لم يختلف جميع من أدركه في حال شبيبته من أئمة و علماء عصره أنه كان من المصطفين من عباد الله ، و ممن نشأ في عبادة الله ، و ممن أجتبي إلى صراط الله ، فاستوجب الوراثة و الإمامة ، فلم يتقدم في عصره أحد أمامه.
و صفته رضي الله عنه  أبيض مشرب بحمرة ، معتدل القامة ، منور الشيبة، ذو صوت جهوري و سمت بهي ، حلو المنطق ، فصيح اللسان ، ذو مهابة و عظمة ، ووقار و حياء و جلال ، و له رضي الله عنه منذ شب عقل نام ، و ذكاء قوي و فهم نافذ و فطنة سرية ، لا يفوته إدراك معنى من المعاني
و بالجملة فكمال عقله رضي الله عنه  و فهمه و قوة إدراكه مما يبهر العقول و يخرج عن المعتاد ، و إذا أراد الله تأهيل عبد هيأه لما خلق من أجله
حفظ رضي الله عنه  القرآن و عمره سبع سنين برواية نافع بقراءته على شيخه سيدي محمد بن حمو التجاني و كان رجلا صالحا مشهورا بالولاية ، و كان مؤدبا للصبيان بقرية عين ماضي.
و لما بلغ الحلم  رضي الله عنه  زوجه والده الشيخ سيدي محمد رضي الله عنه  من غير تراخ اعتناء بشأنه و حفظا له و صونا ، مراعاة للسنة من المبادرة في ذلك ، و بقي في حجر والده إلى أن توفي والده رحمة الله عليه فنال منه حظا وافرا من الصلاح و الدين و الأدب رضي الله عنهما آمين.
و بعد حفظه رضي الله عنه القرآن العظيم حفظا متقنا ووعيه إياه على ظهر قلبه اشتغل بتحصيل فنون علم الظاهر الأصلية و الفرعية و الأدبية فرزق منها الحظ الأوفر و النصيب الأكبر فقرأ على شيخه  ” مختصر الشيخ الخليل” و ” الرسالة لأبي زيد القيرواني” و ” مقدمة ابن رشد” و “الأخضري” ، كما حفظ رضي الله عنه “متن البخاري”، و”متن مسلم”، و”الدردير”، و”الدسوقي”، و”المدونة”، و”موطأ الإمام مالك”، إضافة إلى متون أخرى عديدة و تمادى بطلب العلم زمنا ببلده حتى حصل من العلوم ما ينتفع به ، فكان رضي الله عنه  يدرس و يفتي في تلك السن و له أجوبة في فنون العلم أبدى فيها و أعاد و حرر المعقول و المنقول فأفاد ، و أظهر بتدريسه الخفي و المكنون

سيرته رضي الله عنه
 
أما سيرته رضي الله عنه ،على سبيل الذكر لا الحصر ، فتجده رضي الله عنه حسبما جاء في”الجواهر” آية في موافقة الشريعة و متابعة السنة ،  شديد الحزم و الحرص  في الدين، عالي الهمة فيه ، واقفا على الحدود و الأحكام ، شديد التحرز و الورع ، لا يحب التأويلات، و لا يميل للرخص,، يعظم أمر الشرع محافظا على السنة ولو في أقل القليل فيقول: “الخير كله في إتباع السنة و الشر كله في مخالفتها”  . 
يحافظ على إقامة الصلاة في أوقاتها في الجماعات يتقنها على أتم وجه في سكينة و خشوع ، يطلب التحقيق والتدقيق في كل شيء
يذكر الله عز و جل في كل وقت لا تفارقه سبحته ، يلازم الصلاة على الرسول صلى الله عليه و سلم و يحث عليها ، يحذر من الغيبة غاية التحذير ويتحرى الصدق ولا يحب كثرة الحلف يغض طرفه فلا تراه في طريق إلا ناظرا موضع ممره لا يلتفت ، يصل رحمه و كل من له قرابة به بتفقدهم و يكرمهم ، وكذا اهتمامه في إخوته في الدين، أعظم الناس عنده قربا أكثرهم في الله حبا
محبته في آل البيت النبوي محبة عظيمة ، يودهم و يهتم بهم و يتأدب معهم أحسن الأدب وينصحهم  و يذكرهم بأخلاق النبي صلى الله عليه و سلم قائلا: ” الشرفاء أولى الناس بالإرث من رسول الله صلى الله عليه و سلم. ” ، و يحض على توقيرهم و محبتهم و التواضع لهم ، و يبين عظيم مجدهم ورفيع قدرهم
وكان رضي الله عنه لطيف الصفات، كامل الأدب، جليل القدر، وافر العقل، دائم البشر، مخفوض الجناح، كثير التواضع، شديد الحياء، محبا لأهل الصلاح والفضل، مكرما لأرباب العلم. أجمع العلماء على تعظيمه وتوقيره واحترامه من غير مدافع ولا منازع من أرباب الصدق، وإليه انتهت الرئاسة في تربية السالكين وتهذيب المريدين
 
ارتحاله رضي الله عنه في طلب أهل الله وأخذه طريق الرشاد و الهداية
 

لم يكتف سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه بالرصيد الفقهي والصوفي الذي حصل عليه بمسقط رأسه ، وتوجهت همته العالية إلى ملاقاة السادات الصوفية و التقيد بعهود  المشايخ الكاملين و تاقت نفسه إلى أحوالهم و الوصول إلى مراتبهم و الانحياز إلى حزبهم، فاستسهل الصعاب و استصغر المشاق و طاف في البلاد رغبة في العثور على من يوصله إلى الله كما هي عادة كل عابد موفق، فغادر عين ماضي في أول رحلة له إلى مدينة فاس و كان قد بلغ من العمر حينها  واحدا و عشرين سنة.وخلال المدة التي قضاها بها كان يحضر مجالس العلم ويحاور  كبار علمائها حتى حصّل الحظ الوافر من كل العلوم الشرعية

 كان شأنه شأن المريد الصادق الموصوف حاله في جواب له رضي الله عنه : “المريد الصادق هو من عرف جلال الربوبية و ما يجب القيام به من حقوق الألوهية، وعرف ما عليه نفسه من العجز و الكسل و التقاعد عن صالح العمل ،و أنه إن أقام مع نفسه لحقه في الدارين الوبال، فرجع بصدق و عزم طالبا من ينقذه من وحلته و أسر شهوته و يدله إلى طريق الوصول إلى رب العباد”.
أول من لقي سيدنا رضي الله عنه من السادات الأعلام زمن انتقاله إلى فاس الولي الكبير مولانا الطيب بن سيدي محمد اليملحي العلمي الوزاني رضي الله عنه ، فأذن له في تلقين ورده لكن امتنع سيدي أحمد التجاني لاشتغاله بنفسه رضي الله عنه
و لقي الولي الصالح صاحب الكشف الصحيح سيدي محمد بن الحسن الوانجلي رضي الله عنه ، و لما ورد عليه سيدنا رضي الله عنه قال له قبل أن يكلمه : ” إنك تدرك مقام الشاذلي .” و كاشفه بأمور كانت بباطنه وأشار إليه بالرجوع إلى بلده، واكتفى سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه بالتبرك به دون الأخذ عنه.
والتقى بمدينة فاس بالولي الصالح سيدي عبد الله بن سيدي العربي بن أحمد بن محمد المعني الأندلسي رضي الله عنه ، وتكلم معه في عدة أمور ودعا له ثلاثا :” يأخذ الله بيدك …”.
ثم أخذ الطريقة الناصرية على الولي الصالح أبي عبد الله سيدي محمد بن عبد الله التزاني رضي الله عنه ثم تركها بعد حين، كما أخذ طريقة القطب الشهير أبي العباس سيدي أحمد الحبيب بن محمد الملقب بالغماري السجلماسي رضي الله عنه على بعض من له الأذن فيها  ، ثم تركها بعد حين
ثم أخذ عن الولي الصالح الملامتي سيدي أحمد الطواش رضي الله عنه ، نزيل تازة، فلقنه إسما وطلب منه لزوم الخلوة والوحدة مع الذكر والصبر حتى يفتح الله عليه، وأخبره بأنه سينال مقاما عظيما، فلم يساعده سيدنا على ذلك. فطلب منه أن يذكره من غير خلوة، فذكره سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه مدة يسيرة ثم ترك ذلك 
وأخذ أيضا الطريقة القادرية بفاس ممن كان له الإذن في ذلك، إلا أن سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه ما لبث أن تخلى عنها.  
انتقل سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه بعد أن تحصل على إجازاته العلمية في القرويين  من المغرب إلى جهة الصحراء قاصدا زاوية الشيخ سيدي عبد القادر بن محمد الأبيض و أقام بها مدة منقطعا للعبادة و التدريس مدة خمس سنين  ، من أوائل سنة 1181 هجرية ، و جرد نفسه فيها من العلائق وقطعها عن العوائق وجمع نفسه على الذكر وإعمال الفكر حتى لاحت عليه مبادئ الفتح وبوارقه. وكانت تأتيه الوفود للزيارة والأخذ عنه، فكان يمتنع عن ذلك كل الامتناع ويقول رضي الله عنه:” كلنا واحد في الانتفاع، فلا فضل لأحد على الآخر في دعوة المشيخة إلا سوء الابتداع.” وقد زار خلال هذه المدة بلدة عين ماضي مسقط رأسه ودار آبائه وأجداده.  
و من ثم انتقل إلى تلمسان قاصدا الحج لبيت الله الحرام ، و زيارة قبر نبيه عليه الصلاة و السلام   و لما وصل إلى بلد  أزواوى قرب الجزائر لقي الإمام العارف ذي الصيت الكبير  أبي عبد الله سيدي محمد بن عبد الرحمان الأزهري رضي الله عنه و أخذ عنه الطريقة الخلوتية.  
ولما وصل تونس لقي بعض الأولياء بها، منهم الولي الشهير سيدي عبد الصمد الرحوي رضي الله عنه وقد أخبره شيخ هذا الولي، من خلال رسول خاص، بأنه محبوب. 
مكث سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه سنة، ما بين مدينة تونس  ومدينة سوسة، فأفتى بها وأجاب على كثير من الأسئلة، ودرس عدة علوم وكتب، في مقدمتها كتاب “الحكم “.
فذاع صيته وبلغ خبره إلى أمير البلاد، فطلب منه الإقامة بالديار التونسية للتدريس والإفادة من علومه، وأعطاه دارا وخصص له أجرة مهمة للعمل، غير أن سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه ، الذي كان وجدانه مشدودا إلى ما هو أطهر وأسمى، لما جاءه كتاب الأمير أمسكه وسكت وتهيأ من الغد للسفر بحرا لمصر
وعند صوله إلى  القاهرة بحرا، التقى بشيخها الأكبر، في ذلك الوقت، سيدي محمد الكردي المصري دارا وقرارا، العراقي أصلا ومنشأ، فلما ورد عليه سيدنا  رضي الله عنه  قال له سيدي محمد الكردي رضي الله عنه:” أنت محبوب عند الله في الدنيا و الآخرة ! ” وجرت بينهما مذاكرات.
فسأله الشيخ الكردي رضي الله عنه ، بعد أيام، عن مطلبه، فأجابه سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه بأن مطلبه هو الحصول على القطبانية العظمى. فقال له بمقتضى كشفه العياني و فراسته النورانية:” لك عند الله تعالى ما هو أجل من مقام القطبانية “، ثم تهيأ سيدنا  رضي الله عنه  لما هو بصدده من التوجه لبيت الله الحرام فودعه الشيخ و دعا له و ضمنه ذهابا وإيابا
ومن مصر توجه إلى بيت الله الحرام، وكان وصوله إلى مكة في شهر شوال عام 1773م الموافق 1187 هجرية. 
ثم بحث كعادته عن أهل الرشد و الصلاح من المشايخ الكبار أصحاب المعارف اللدنية و الأسرار، فأخذ عن الإمام الحبر الهمام أبو العباس سيدي أحمد بن عبد الله الهندي القاطن مكة المشرفة رضي الله عنه ، الذي لم يكن له الإذن بملاقاة أحد
رغم ذلك أخذ عنه سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه علوما وأسرارا، بواسطة رسول خاص، من غير ملاقاته، وأخبره بما سيؤول إليه أمره وبشره بأنه سيرث أسراره ومواهبه وأنواره قائلا:” أنت وارث علمي و أسراري و مواهبي و أنواري !” ، وقبل موته في عشرين ذي الحجة عام 1187 هجرية أعطى سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه سرا كبيرا، وأمره أن يذكره سبعة أيام ويعتزل الناس ليفتح الله عليه، لكن سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه لم يعمل بذلك،  وقد أخبره أيضا بأنه سيلتقي بالقطب السمان بالمدينة المنورة، وبشره أيضا بأنه سيبلغ مقام الشاذلي، كما سبق أن أخبره بذلك سيدي محمد بن الحسن الوانجلي رضي الله عنه المتقدم ذكره.  وبعد أن أكمل شعائر الحج وزيارة قبر جده سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، توجه إلى لقاء سيدي محمد بن عبد الكريم السمان رضي الله عنه. 
وخلال هذا اللقاء طلب من سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه أن يدخل الخلوة عنده لمدة ثلاثة أيام فتعلل له سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه لعذر قام به ، وأذن له الشيخ السمان رضي الله عنه في جميع الأسماء وأخبره بأنه هو القطب الجامع، وبشره بنيل المرام والحصول على الأذن المطلق العام.
ثم سافر سيدنا رضي الله عنه بعد ذلك راجعا لمصر القاهرة مع ركب الحجيج و بادر بزيارة شيخه سيدي محمد الكردي يسلم عليه ، فرحب به وأمره بالتردد عليه كل يوم ، فكان يلقي الأمور المشكلة  على سيدنا رضي الله عنه و يطلب منه حل إشكالها ، حتى ظهرت علوم سيدنا الغزيرة و أحدقت به علماء مصر للاستفادة
ولما عزم سيدنا رضي الله عنه على الارتحال إلى البلاد المغربية أجازه شيخه محمد الكردي رضي الله عنه في طريقته الخلوتية و التربية بها فامتنع، فقال له:” لقن الناس، و الضمان علي!” فقال:” نعم” فكتب له الإجازة وسند الطريق.
وعاد رضي الله عنه إلى تونس، ولم يمكث بها طويلا، وارتحل إلى تلمسان عام 1774 ميلادية، الموافق 1188هجرية.  فقضى فيها  حوالي ثلاث سنوات في العبادة والمجاهدة والدلالة على الله
وفي سنة في 1777 ميلادية، الموافق 1191هجرية عاد سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه ثانية من تلمسان إلى فاس، قاصدا زيارة مولاي إدريس الأزهر. والتقى في هذه الرحلة بكاتبه وخازن أسراره سيدي محمد بن المشرى الحسنى السباعي السائحي التكرتى الدار رضي الله عنه ، ومنذ التقائه به صار يؤم به الصلاة وبأهله، ويقوم مقامه في كتابة الأجوبة حتى سنة 1208 هجرية الموافق 1794م، وهي السنة التي بدأ فيها سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه القيام بالإمامة بنفسه امتثالا لأمر جده عليه الصلاة والسلام.
وفى مدينة وجدة وهو قافل إلى فاس ، التقى بسيدي علي حرازم برادة الفاسي رضي الله عنه لأول مرة، فتوجها معا إلى مدينة فاس.
وبعد زيارة ضريح مولاي إدريس أخبر خليفته علي حرازم برادة رضي الله عنه بأنه عازم على العودة إلى تلمسان وودعه وطلب منه ملازمة العهد والمحبة وصدق التوجه لله
مكث سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه في تلمسان مدة ثم غادرها إلى قصر الشلالة وأبي سمغون، حيث ضريح الولي الصالح الذي سمي القصر باسمه
حل سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه بقصر أبي سمغون سنة 1781 ميلادية، الموافق 1196هجرية وبه حصل له الفتح الأكبر والولاية العظمى ، و ذلك بأن رأى يقظة لا مناما سيد الوجود صلى الله عليه و سلم و أخبره أنه هو مربيه و كافله ، وأنه لا يصله شيء من الله إلا على يديه و بواسطته صلى الله عليه و سلم، و قال له :” لا منة لمخلوق عليك من أشياخ الطريق “، وأمره بترك جميع ما أخذه ، ولقنه صلى الله عليه و سلم مجموعة  من الأوراد و قال له صلى الله عليه و سلم :” فأنا واسطتك وممدك على التحقيق… فاترك عنك جميع ما أخذت من جميع الطرق والزم هذه الطريقة من غير خلوة ولا اعتزال عن الناس حتى تصل مقامك الذي وعدت به وأنت على حالك من غير ضيق ولا حرج ولا كثرة مجاهدة واترك عنك جميع الأولياء.”.
و أذن له صلى الله عليه و سلم بتربية الخلق بعد أن كان فارا من ادعاء المشيخة شديد التنصل من ذلك ، وعين له الورد الذي أذن له  صلى الله عليه وسلم بتلقينه لكل من رغب فيه من المسلمين والمسلمات، بعد تحديد الشروط والتزام المريد بها 
ومنذ وقوع هذا الفتح والفيض بدأ يتكاثر على شيخنا ورود الأنوار والأسرار والترقيات في أبي سمغون والشلالة ، و فاض رضي الله عنه بالعلم اللدني الخاص بالكمل من أهل القرب ، ففسر كثيرا من آيات القرآن الكريم بما قصر عنه إدراك غيره ، و بين كثيرا من غوامض الأحاديث النبوية ، وما إن اشتهر أمره وذاع خبره بين الناس حتى شرعت تتوافد عليه أعداد كثيرة من الخلق بغية الأخذ عنه والانتماء إليه ، وكل من قصده في شيء نال مرغوبه ، فجعل الناس يأتونه من سائر الأقطار أفواجا

هجرته رضي الله عنه من قصر أبي سمغون إلى مدينة فاس 

لما تشعشع أمر هذه الطريقة و طار صيتها في البلاد ، و أمرُ سيدنا رضي الله عنه لم يزل في غاية الترقي والكمال ، لم يعد ينظر إليه من قبل الحكم التركــي في الجزائر بعين الاطمئنان والرضى إذ أنه أبدى رضي الله عنه استيائه من جور حكمهم ولذلك هاجر رضي الله عنه من قصر أبي سمغون إلى مدينة فاس بالمغرب الأقصى ، والتي دخلها في السادس من ربيع الثاني1213 للهجرة ، يرافقه خليفته سيدى علي حرازم برادة
و بعدما استقرت به الدار و اطمأن به المنزل و مضى نحو الشهرين من مقدمه ، أمر تلميذه الأخص سيدنا علي حرازم رضي الله عنه بجمع كتاب” جواهر المعاني” بعد أن كان أمر أولا بتمزيق ما جمع منه لأمر اقتضاه الحال

القطبانية العظمى و الكتمية و الختمية
 
وفي شهر المحرم 1214 للهجرة ، حل  سيدنا رضي الله عنه مقام القطبانية ، و غدا الغوث الجامع ، و ظهر بحمد الله ما بشره به أهل الكشوفات ، و في الثامن عشرمن صفر ، أي بعد شهر و ليال، ارتقى في درجات مقام قطبانيته الأكمل إلى أن حل مقامه العزيز المختار له في الأزل، وهو مقام الكتمية الذي أخفى الله حقيقته عن جميع الخلق ما عدا سيد الوجود صلى الله عليه و سلم ، وهو المقام الأرفع الأخص الذي ليس فوقه من مقامات العارفين و الصديقين إلا مقام الصحابة الكرام رضوان الله عليهم  الذين ليس فوقهم في الفضيلة إلا الأنبياء عليهم الصلاة و السلام
و من كلام سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه عن حقيقة القطبانية قوله :” القطبانية هي الخلافة العظمى عن الحق تبارك و تعالى مطلقا في جميع الوجود جملة و تفصيلا …”
و الأقطاب متفاوتون في هذا وأكملهم درجة هو من بلغ الرتبة العليا المسماة بختم المقامات ، ولم يرتقه منهم إلا القليل لبعد مرامه ، و أعلاهم هو الختم الأكبر الذي هو ختم الولاية المحمدية يختم به الله الولاية المحمدية الباطنة 
كما نبه رضي الله عنه أن سيد الوجود صلى الله عليه و سلم أخبره يقظة بأنه هو الخاتم المحمدي المعروف و بأن مقامه لا مقام فوقه في بساط المعرفة بالله ، و هذا الختم هو المتلقي بجميع ما يفيض من ذوات الأنبياء عليهم السلام من الإمداد وهو المفيض على جميع الأولياء وإن لم يعلموا به إلى غير ذلك من فضائله العظام
و من علاماته أنه يحقق مواجيد الأولياء كلهم و يختص عنهم بوجده كما حقق خاتم الأنبياء مواجيد الأنبياء كلهم واختص عنهم بوجده 
و قد ذكر هذا الختم غير واحد من الأئمة الكبار رضي الله عنهم ، كالحاتمي و الشاذلي رضي الله عنهما و الإمام المحدث الصوفي أبو عبد الله محمد الترمذي و الشيخ عبد الوهاب الشعراني في اليواقيت و الجواهر و الشيخ محيي الدين في “الفتوحات المكية” ، رضي الله عنهم أجمعين .
و أما وجه تسميته مكتوما فلأن له مرتبة باطنة لا يعلم حقيقتها  أحد إلا الله تبارك و تعالى و سيد الوجود صلى الله عليه و سلم
و قد قال سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه مخبرا عن مقامه :”قدماي هاتين على رقبة كل ولي لله تعالى! ” فقال له صاحبه سيدي محمد الغالي رضي الله عنه :” أنت في حالة الصحو والبقاء أو في السكر و الفناء ؟ ” فقال رضي الله عنه :” بل أنا في حالة الصحو و البقاء و لله الحمد. ” فأجابه صاحبه : ” يا سيدي ما تقول في قول سيدي عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه قدمي هذه على رقبة كل ولي لله تعالى ؟” فقال:” صدق رضي الله عنه يعني أهل عصره، و أما أنا فأقول قدماي هاتين على رقبة كل ولي لله تعالى من لدن آدم إلى النفخ في الصور” . فقال له : “يا سيدي فكيف تقول إذا قال أحد بعدك مثل ما قلت ؟ ” فقال رضي الله عنه:” لا يقول أحد بعدي!” فقال له : ” يا سيدي قد حجرت على الله واسعا ألم يكن الله قادرا على أن يفتح على ولي فيعطيه من الفيوضات و التجليات و المنح و المقامات و المعارف والعلوم و الأسرار و الترقيات و الأحوال أكثر مما أعطاك ؟ ” فكان جواب سيدنا رضي الله عنه :” بلى قادر على ذلك و أكثر منه، و لكن لا يفعله لأنه لم يرده ، ألم يكن قادرا على أن ينبئ أحدا ويرسله إلى الخلق و يعطيه أكثر مما أعطى سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم ؟” فقال:” بلى و لكنه تعالى لا يفعله لأنه ما أراده في الأزل .” فقال رضي الله عنه: ” هذا مثل ذاك ، ما أراده في الأزل و لم يسبق به علمه تعالى ” . 

وفاته رضي الله عنه
 
استوطن رضي الله عنه فاس و أقام بها زاويته المباركة الشهيرة ، و سافر بنفسه مرارا إلى البلاد الصحراوية ، و لما زوج سيدنا رضي الله عنه ولديه سيدي محمد الكبير و سيدي محمد الحبيب رضي الله عنهما عزم على الارتحال من فاس إلى القطر الشامي مع أهله و عياله والإستيطان به لما ورد في فضله ، لكنه عدل عن ذلك في نهاية الأمر لأن أولياء المغرب أبوا أن يفقدوا من بين ظهرانيهم نوره فطلبوا من حضرة سيد الوجود بقاءه العيني بين ظهرانيهم فأجابهم صلى الله عليه وسلم لمطلبهم وأذن له صلى الله عليه و سلم في المُقام وعدم الترحال فبقي بفاس حتى وفاته
و كانت وفاته رضي الله عنه يوم الخميس السابع عشرمن شوال 1230 هجري الموفق 1815ميلادي و عمره ثمانون سنة، ودفن في فاس رضي الله عنه وأرضاه
و في مرضه الذي توفي فيه طلب أن يُحضَر له القصيدة الدالية للإمام البوصيري رضي الله عنه ولعدم إمكانية الحصول عليها بفاس قام بعض خاصته بجلبها من مدينة مكناس فأمر أن تسرد بين يديه ، و ما إن تمت لم يعد سيدنا رضي الله عنه يكلم أحدا
كما أمر أن تُسرد  قصيدة الإمام أبي حامد  الغزالي رضي الله عنه ليلة وفاته (و قيل أنها وجدت مقيدة في بطاقة عند رأس  الإمام الغزالي يوم موته أيضا) و نصها :
قل  لأخوان   رأوني    ميتا                                 فبكوني   و  رثوني   حزنا 
أعلى  الغائب مني   حزنكم                                 أم على الحاضر منكم هاهنا 
أتظنون    بأني       ميتكم                                 ليس  ذاك الميت  و الله  أنا 
أنا في الصور وهذا  جسدي                                كان ثوبي  و  قميصي  زمنا 
أنا  در  قد  حواني   صدف                                كان  سجني   فألفت  السجنا 
أنا  عصفور و هذا   قفصي                                طرت    عنه   فتخلى   للفنا 
أشكر  الله  الذي   خلصني                                 و بنا  لي  في  المعالي ركنا 
كنت قبل  اليوم  ميتا  بينكم                                 فحييت    و   خلعت    الكفنا 
فأنا   اليوم    أناجي    ملأ                                 و   أرى  الحق  جهارا  علنا 
عاكف في اللوح أقرا و أرى                               كل  ما  كان  و  يأتي  أو دنا 
و طعامي  و شرابي   واحد                                هو   رمز   فافهموه    حسنا 
ليس  خمرا سائغا  أو عسلا                                لا  و  لا  ماء  و   لكن   لبنا 
هو مشروب  رسول الله  إذ                                 كان  يسري   فطره   فطرنا 
فافهموا  السر   ففيه      نبا                                أي   معنى  تحت لفظي كمنا 
لا تظن   الموت موتا    إنه                                 لحياة  وهو   غايات   المنى 
لا ترعكم  هجمة الموت فما                                هي   إلا   نقلة  من   ها هنا 
فاخلعوا الأجسام عن أنفسكم                                تبصروا   الحق  جهارا علنا 
و خذوا في الزاد جهدا لا تنوا                              ليس  بالعاقل  منا  من  ونى 
ما   أرى  نفسي  إلا    انتم                                 واعتقادي   أنكم   أنتم   أنا 
عنصر  الأنفس   منا  واحد                                و كذاك   الجنس جنس عمنا 
فمتى  ما  كان   خيرا   فلنا                                و متى   ما كان   شرا   فبنا 
فارحموني  ترحموا  أنفسكم                                واعلموا   أنكم   في   أثارنا 
واسألوا   الله  لنفسي  رحمة                                و يرحم   الله   صديقا   أمنا 
و عليكم  من  سلامي  طيب                               و سلام    الله    بدءا    و ثنا
وحينما اقتربت الوفاة من سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه بدأ يردد بدون انقطاع لشدة ما به من الحال: ” الله! الله! النور أحرق قلبي ! الله! النور أحرق قلبي! ” ، وعند الفجر طلب ممن كان من الحاضرين أن ينصرفوا بعد أن أخبرهم بأن رسول الله صلى الله عليه و سلم يحضره  مع الخلفاء الأربعة رضوان الله عليهم، ولم يبق معه إلا بعض الخاصة. 
و بعد أن أدى فريضة الصبح اضطجع رضي الله عنه على جنبه الأيمن و دعا بماء فشرب منه ، ثم عاد إلى اضطجاعه على حالته، فطلعت روحه الكريمة من ساعته و صعدت إلى مقرها الأقدس
حضر جنازته المباركة رضي الله عنه ما لا يكاد يُحصى من علماء فاس و صلحائها و فضلائها و صلى عليه إماما العلامة مفتي فاس الفقيه أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الدكالي، وازدحم الناس على تشييع جنازته و حملها و حضور الصلاة عليه ، و ما وفاته إلا نقلة من الدار الترابية إلى الدار النورانية فرضي الله عنه و أرضاه وألحقنا الله بجواره بأعلى عليين بجوار سيد المرسلين . آمين .

أنشر على شبكات التواصل الإجتماعي